فصل: تفسير الآيات رقم (9 - 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة المجادلة

مدنية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت، وكانت حسنة الجسم وكان به لمم فأرادها فأبت، فقال لها‏:‏ أنت عليَّ كظهر أمي، ثم ندم على ما قال‏.‏ وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية‏.‏ فقال لها‏:‏ ما أظنك إلا قد حرمت عليَّ‏.‏ فقالت‏:‏ والله ما ذاك طلاق، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه - فقالت‏:‏ يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني، وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حرمتِ عليه، فقالت‏:‏ يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقًا وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حرمت عليه، فقالت‏:‏ أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت صحبتي ونفضت له بطني‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أراك إلا قد حرمت عليه، ولم أومر في شأنك بشيء، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حرمت عليه هتفت وقالت‏:‏ أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صِبْيَةً صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول‏:‏ اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وكان هذا أول ظهار في الإسلام‏.‏

فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر‏.‏ فقالت‏:‏ انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله، فقالت عائشة‏:‏ أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه أخذه مثل السبات - فلما قضى الوحي قال لها‏:‏ ادعي زوجك فدعته، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قد سمع الله قول التي تجادلك‏"‏ الآيات‏.‏

قالت عائشة‏:‏ تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه إذ أنزل الله‏:‏ ‏"‏قد سمع الله‏"‏ الآيات‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ‏}‏ تخاصمك وتحاورك وتراجعك في زوجها ‏{‏وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا‏}‏ مراجعتكما الكلام ‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ سميع لما تناجيه وتتضرع إليه، بصير بمن يشكو إليه، ثم ذم الظهار فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِم‏}‏ قرأ عاصم‏:‏ ‏"‏يظاهرون‏"‏ فيها بضم الياء وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء‏.‏ وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي‏:‏ بفتح الياء والهاء، وتشديد الظاء وألف بعده‏.‏ ا وقرأ الآخرون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء من غير ألف‏.‏

‏{‏مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ‏}‏ أي ما اللواتي يجعلونهن من زوجاتهم كالأمهات بأمهات‏.‏ وخفض التاء في ‏"‏أمهاتهم‏"‏ على خبر ‏"‏ما‏"‏ ومحله نصب كقوله‏:‏ ‏"‏ما هذا بشرا‏"‏ ‏[‏يوسف - 31‏]‏ المعنى‏:‏ ليس هن بأمهاتهم ‏{‏إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ‏}‏ أي ما أمهاتهم ‏{‏إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ لا يعرف في شرع ‏{‏وَزُورًا‏}‏ كذبا ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ عفا عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم‏.‏

وصورة الظهار‏:‏ أن يقول الرجل لامرأته‏:‏ أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنت مني أو معي أو عندي كظهر أمي، وكذلك لو قال‏:‏ أنت عليَّ كبطن أمي أو كرأس أمي أو كيد أمي أو قال بطنك أو رأسك أو يدك علي كظهر أمي أو شبَّه عضوًا منها بعضوٍ آخر من أعضاء أمّه فيكون ظهارًا‏.‏

وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - إن شبهها ببطن الأم أو فرجها أو فخذها يكون ظهارًا وإن شبهها بعضو آخر لا يكون ظهارًا‏.‏ ولو قال أنت علي كأمي أو كروح أمي وأراد به الإعزاز والكرامة فلا يكون ظهارًا حتى يريده، ولو شبهها بجدته فقال‏:‏ أنت علي كظهر جدتي يكون ظهارًا وكذلك لو شبهها بامرأة محرّمة عليه بالقرابة بأن قال‏:‏ أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي أو شبهها بامرأة محرمة عليه بالرضاع يكون ظهارًا - على الأصح من الأقاويل -‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ ثم حُكْم الظهارِ‏:‏ أنه يحرم على الزوج وطؤها بعد الظهار ما لم يكفّر، والكفارة تجب بالعَوْدِ بعد الظهار‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة‏"‏‏.‏

واختلف أهل العلم في ‏"‏العَوْد‏"‏ فقال أهل الظاهر‏:‏ هو إعادة لفظ الظهار، وهو قول أبي العالية لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ثم يعودون لما قالوا‏"‏ أي إلى ما قالوا ‏[‏أي أعادوه مرة أخرى‏]‏‏.‏ فإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه‏.‏

وذهب قوم إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار، والمراد من ‏"‏العود‏"‏ هو‏:‏ العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار، وهو قول مجاهد والثوري‏.‏

وقال قوم‏:‏ المراد من ‏"‏العود‏"‏ الوطء وهو قول الحسن وقتادة وطاووس والزهري وقالوا‏:‏ لا كفارة عليه ما لم يطأها‏.‏ وقال قوم‏:‏ هو العزم على الوطء، وهو قول مالك وأصحاب الرأي‏.‏

وذهب الشافعي إلى أن العود هو أن يمسكها عقيب الظهار زمانا يمكنه أن يفارقها فلم يفعل، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال أو مات أحدهما في الوقت فلا كفارة عليه لأن العود للقول هو المخالفة‏.‏ وفسر ابن عباس ‏"‏العود‏"‏ بالندم، فقال‏:‏ يندمون فيرجعون إلى الألفة، ومعناه هذا‏.‏

قال الفراء يقال‏:‏ عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي نقض ما قال يعني‏:‏ رجع عما قال‏.‏

وهذا يبين ما قال الشافعي وذلك أن قصده بالظهار التحريم، فإذا أمسكها على النكاح فقد خالف قوله ورجع عما قاله فتلزمه الكفارة، حتى قال‏:‏ لو ظاهر عن امرأته الرجعية ينعقد ظهاره ولا كفارة عليه حتى يراجعها فإن راجعها صار عائدا ولزمته الكفارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا‏}‏ والمراد بـ ‏"‏التّماس‏"‏‏:‏ المجامعة، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام، وعند مالك إن أراد التكفير بالإطعام يجوز له الوطء قبله، لأن الله تعالى قيد العتق والصوم بما قبل المسيس وقال في الإطعام‏:‏ ‏"‏فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا‏"‏ ولم يقل‏:‏ من قبل أن يتماسا‏.‏ وعند الآخرين‏:‏ الإطلاق في الإطعام محمول على المقيَّد في العتق والصيام‏.‏

واختلفوا في تحريم ما سوى الوطء من المباشرات قبل التكفير، كالقُبْلة والتلذذ‏:‏ فذهب أكثرهم إلى أنه لا يحرم سوى الوطء، وهو قول الحسن، وسفيان الثوري وأظهر قولي الشافعي كما أن الحيض يحرم الوطء دون سائر الاستمتاعات‏.‏

وذهب بعضهم إلى أنه يحرم، لأن اسم ‏"‏التماس‏"‏ يتناول الكل، ولو جامع المظاهر قبل التكفير يعصي الله تعالى، والكفارة في ذمته‏.‏ ولا يجوز أن يعود ما لم يكفر، ولا يجب بالجماع كفارة أخرى‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ إذا واقعها قبل التكفير عليه كفارتان‏.‏

وكفارة الظهار مرتبة يجب عليه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن أفطر يوما متعمدًا أو نسي النية يجب عليه استئناف الشهرين، فإن عجز عن الصوم يجب عليه أن يطعم ستين مسكينا‏.‏ وقد ذكرنا في سورة المائدة مقدار ما يطعم كل مسكين‏.‏

‏{‏ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ تؤمرون به ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ‏}‏ يعني الرقبة ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا‏}‏ فإن كانت له رقبة إلا أنه محتاج إلى خدمته، أو له ثمن رقبة لكنه محتاج إليه لنفقته ونفقة عياله فله أن ينتقل إلى الصوم‏.‏ وقال مالك والأوزاعي‏:‏ يلزمه الإعتاق إذا كان واجدًا للرقبة أو ثمنها وإن كان محتاجًا إليه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان واجدًا لعينِ الرقبة يجب عليه إعتاقها وإن كان محتاجًا إليها فأما إذا كان واجدًا لثمن الرقبة وهو محتاج إليه فله أن يصوم، فلو شرع المظاهر في صوم شهرين ثم جامع في خلال الشهر بالليل يعصي الله تعالى بتقديم الجماع على الكفارة، ولكن لا يجب عليه استئناف الشهرين، وعند أبي حنيفة يجب عليه استئناف الشهرين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا‏}‏ يعني المظاهر إذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة ولا يصبر عن الجماع يجب عليه إطعام ستين مسكينًا‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري حدثنا أحمد بن علي الكشميهني حدثنا علي بن حُجْر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حرملة، عن عطاء بن يسار أن خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت، فظاهر منها وكان به لمم، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن أوسًا ظاهر مني وذكرت أن به لممًا فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له إن له فيَّ منافع، فأنزل القرآن فيهما‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مُرِيهِ فليعتِقْ رقبة، قالت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما عنده رقبة ولا ثمنها قال‏:‏ مريه فليصم شهرين متتابعين، فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحق لو كلفته ثلاثة أيام ما استطاع، قال‏:‏ مريه فليطعم ستين مسكينًا قالت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما يقدر عليه، قال‏:‏ مريه فليذهب إلى فلان ابن فلان فقد أخبرني أن عنده شطر تمر صدقة، فليأخذه صدقة عليه ثم ليتصدق به على ستين مسكينا‏"‏‏.‏

وروى سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال‏:‏ كنت امرأ أصيب من النساء ما لم يصب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئًا فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن وقعت عليها فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال‏:‏ أنتَ بذاك، فقلت‏:‏ أنا بذاك - قاله ثلاثا - قلت‏:‏ أنا بذاك وها أنا ذَا فأمضِ في حكم الله، فإني صابر لذلك، قال‏:‏ فأَعْتِقْ رقبةً‏.‏ فضربت صفحةَ عنقي بيدي فقلت‏:‏ لا والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها قال‏:‏ فصم شهرين متتابعين، فقلت‏:‏ يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا من الصيام‏؟‏ قال‏:‏ فأطعم ستين مسكينًا قلت‏:‏ والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه ‏[‏وحشين‏]‏ ما لنا عشاء، قال‏:‏ اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقًا ستين مسكينًا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك‏.‏ قال‏:‏ فرجعت إلى قومي فقلت‏:‏ وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي قال‏:‏ فدفعوها إليه‏.‏

‏{‏ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ لتصدقوا ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل، ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ‏}‏ يعني ما وصف من الكفارات في الظهار ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لمن جحده وكذب به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ أي يعادون الله ورسوله ويشاقون ويخالفون أمرهما ‏{‏كُبِتُوا‏}‏ أذلوا وأخزوا وأهلكوا ‏{‏كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ‏}‏ حفظ الله أعمالهم ‏{‏وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 8‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُون مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُون‏}‏ قرأ أبو جعفر بالتاء، لتأنيث النجوى، وقرأ الآخرون بالياء لأجل الحائل ‏{‏مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ‏}‏ أي من سرار ثلاثة، يعني من المسارّة، أي‏:‏ ما من شيء يناجي به الرجل صاحبيه ‏{‏إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ بالعلم‏.‏

وقيل‏:‏ معناه ما يكون من متناجين ثلاثة يسارّ، بعضهم بعضًا إلا هو رابعهم بالعلم، يعلم نجواهم ‏{‏وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏ قرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏أكثرُ‏"‏ بالرفع على محل الكلام قبل دخول ‏"‏مِنْ‏"‏ ‏{‏ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى‏}‏ نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك ويقولون ما نراهم إلا وقد بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا قَتْلٌ أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك عليهم وكثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله ‏"‏ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى‏"‏ أي المناجاة ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ‏}‏ أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها ‏{‏وَيَتَنَاجَوْن‏}‏ قرأ الأعمش وحمزة‏:‏ و ‏"‏وينتنجون‏"‏ على وزن يفتعلون، وقرأ الآخرون ‏"‏يتناجون‏"‏ لقوله‏:‏ ‏"‏إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول‏"‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهاهم عن النجوى فعصوه ‏{‏وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ‏}‏ وذلك أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيَقُولُون‏}‏ السام عليك‏.‏ ‏"‏ والسام ‏"‏‏:‏ الموت، وهم يوهمونه أنهم يقولون‏:‏ السلام عليك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول‏:‏ عليكم، فإذا خرجوا قالوا‏:‏ ‏{‏فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ‏}‏ يريدون‏:‏ لو كان نبيا حقا لعذبنا الله بما نقول، قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أبو أيوب عن ابن أبي مليكة، عن عائشة‏:‏ ‏"‏أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ السام عليك قال‏:‏ وعليكم، فقالت عائشة‏:‏ السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، قالت‏:‏ أولم تسمع ما قالوا‏؟‏ قال‏:‏ أولم تسمعي ما قلت‏؟‏ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيَّ‏"‏‏.‏

ثم إن الله تعالى‏:‏ نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ‏}‏ أي كفعل المنافقين واليهود وقال مقاتل أراد بقوله‏:‏ ‏"‏آمنوا‏"‏ المنافقين أي آمنوا بلسانهم‏.‏ قال عطاء‏:‏ يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم‏:‏ لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ‏{‏وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏{‏إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي من تزيين الشيطان ‏{‏لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي إنما يزين لهم ذلك ليحزن المؤمنين ‏{‏وَلَيْسَ‏}‏ التناجي ‏{‏بِضَارِّهِمْ شَيْئًا‏}‏ وقيل‏:‏ ليس الشيطان بضارهم شيئا ‏{‏إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري حدثنا عبد الرزاق أخبرنا مَعْمَر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا‏}‏ الآية قال مقاتل بن حيان‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس منهم يومًا وقد سُبِقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم وسلموا عليه فردَّ عليهم، ثم سلموا على القوم فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يفسحوا لهم فشقَّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله‏:‏ قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وقد ذكرنا في سورة الحجرات قصته‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض‏.‏

وقيل‏:‏ كان ذلك يوم الجمعة، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا‏}‏ أي توسعوا في المجلس، قرأ الحسن وعاصم‏:‏ ‏"‏في المجالس‏"‏ لأن الكل جالس مجلسًا معناه‏:‏ ليتفسحْ كل رجل في مجلسه‏.‏ وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏في المجلس‏"‏ على التوحيد لأن المراد منه مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَافْسَحُوا‏}‏ أَوْسِعُوا، يقال‏:‏ فسح يفسح فسحًا‏:‏ إذا وسع في المجلس ‏{‏يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ يوسع الله لكم الجنة والمجالس فيها‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يقيمنَّ أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال‏:‏ قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا‏"‏

وقال أبو العالية، والقرظي والحسن‏:‏ هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام وعاصم بضم الشين وقرأ الآخرون بكسرهما وهما لغتان أي ارتفعوا قيل‏:‏ ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسِّعُوا لإخوانكم‏.‏ وقال عكرمة والضحاك‏:‏ كان رجال يتثاقلون عن الصلاة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية معناه‏:‏ إذا نودي للصلاة فانهضوا لها

وقال مجاهد وأكثر المفسرين‏:‏ معناه‏:‏ إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى مجالس كل خير وحق فقوموا لها ولا تقصروا‏.‏

‏{‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِين آمَنُوا مِنْكُمْ‏}‏ بطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وقيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم ‏{‏وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏}‏ من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم ‏"‏درجات‏"‏ فأخبر الله عز وجل أن رسوله صلى الله عليه وسلم مصيب فيما أمر وأن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا من الإكرام‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ قال الحسن‏:‏ قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال‏:‏ أيها الناس افهموا هذه الآية ولنرغبنَّكم في العلم، فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏"‏ المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات‏.‏

‏[‏أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد ابن سليمان‏]‏ حدثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الهروي أخبرنا محمد بن يونس القرشي أخبرنا عبيد الله بن داود، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة، حدثني داود بن جميل عن كثير بن قيس قال‏:‏ كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال‏:‏ يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما كانت لك حاجة غيره‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ ولا جئتَ لتجارة‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ ولا جئت إلا رغبة فيه‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن السموات والأرض والحوت في الماء لتدعو له، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم السراج، أخبرنا الحسن ابن يعقوب العدل، حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء، حدثنا جعفر بن عون أخبرنا عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، قال‏:‏ ‏"‏كلا المجلسين على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلِّمون الجاهل، فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلمًا ثم جلس فيهم‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏}‏ أمام مناجاتكم، قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثروا حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف على نبيه ويثبطهم ويردعهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقةً على المناجاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال مقاتل بن حيان‏:‏ نزلت في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته، فأما أهل العسرة فلم يجدوا شيئًا وأما أهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الرخصة‏.‏

قال مجاهد‏:‏ نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجِهِ إلا علي رضي الله عنهُ تصدق بدينار وناجاهُ ثم نزلت الرخصة فكان علي رضي الله عنه يقول‏:‏ آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة وروي عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أما ترى دينارًا‏؟‏ قلت‏:‏ لا يطيقونهُ قال‏:‏ فكم‏؟‏ قلت‏:‏ حبة أو شعيرة، قال‏:‏ إنك لزهيد، فنزلت‏:‏ ‏"‏أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات‏"‏ قال علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ فبي قد خفف الله عن هذه الأمة‏.‏

‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تقديم الصدقة على المناجاة ‏{‏وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به معفو عنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 15‏]‏

‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أبخلتم‏؟‏ والمعنى‏:‏ أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم ‏{‏بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا‏}‏ ما أمرتم به ‏{‏وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ تجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة، وقيل ‏"‏الواو‏"‏ صلة مجازه‏:‏ فإن لم تفعلوا تاب الله عليكم ونسخ الصدقة ‏[‏قال مقاتل بن حيان‏:‏ كان ذلك عشر ليال ثم نسخ‏]‏ وقال الكلبي‏:‏ ما كانت إلا ساعة من نهار‏.‏

‏{‏فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ المفروضة ‏{‏وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ الواجبة ‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ نزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم‏.‏ وأراد بقوله‏:‏ ‏"‏غضب الله عليهم‏"‏ اليهود ‏{‏مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ‏}‏ يعني المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء، ولا من اليهود والكافرين، كما قال‏:‏ ‏"‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏"‏ ‏[‏النساء – 143‏]‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ قال السدي ومقاتل‏:‏ نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال‏:‏ يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏علام تشتمني أنت وأصحابك‏"‏‏؟‏ فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنزل الله عز وجل هذه الآيات، فقال‏:‏ ‏"‏ويحلفون على الكذب وهم يعلمون‏"‏ أنهم كَذَبَة‏.‏ ‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 21‏]‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ‏}‏ الكاذبة ‏{‏جُنَّة‏}‏ يستجنُّون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ‏{‏فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ ‏{‏لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ‏}‏ كاذبين ما كانوا مشركين ‏{‏كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ‏}‏ من أيمانهم الكاذبة ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ‏}‏ ‏{‏اسْتَحْوَذ‏}‏ غلب واستولى ‏{‏عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ‏}‏ الأسفلين‏.‏ أي‏:‏ هم في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ‏}‏ قضى الله قضًاء ثابتًا ‏{‏لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏نظيره‏]‏ قوله‏:‏ ‏"‏ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون‏"‏ ‏[‏الصافات 71 – 72‏]‏ قال الزجاج‏:‏ غلبة الرسل على نوعين‏:‏ من بعث منهم بالحرب فهو غالب بالحرب، ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمنًا لا يوالي من كفر، وإن كان من عشيرته‏.‏

قيل‏:‏ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وسيأتي في سورة الممتحنة إن شاء الله عز وجل‏.‏

وروى مقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال‏:‏ ‏"‏ولو كانوا آباءهم‏"‏ يعني‏:‏ أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ‏"‏أو أبناءهم‏"‏ يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال‏:‏ يا رسول الله دعني أكن في الرحلة الأولى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ متعنا بنفسك يا أبا بكر ‏"‏أو إخوانهم‏"‏ يعني‏:‏ مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد ‏"‏أو عشيرتهم‏"‏ يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليا وحمزة وعبيدة قتلوا يوم بدرعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة

‏{‏أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ‏}‏ أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة، وقيل‏:‏ حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه ‏{‏وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ‏}‏ قواهم بنصر منه‏.‏ قال الحسن‏:‏ سمى نصره إياهم روحا لأن أمرهم يحيا به‏.‏ وقال السدي‏:‏ يعني بالإيمان‏.‏ وقال الربيع‏:‏ يعني بالقرآن وحجته، كما قال‏:‏ ‏"‏وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا‏"‏ ‏[‏الشورى - 52‏]‏ وقيل برحمة منه‏.‏ وقيل أمدهم بجبريل عليه السلام‏.‏ ‏{‏وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏

سورة الحشر

مدنية

قال سعيد بن جبير‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ سورة الحشر‏؟‏ قال‏:‏ قل‏:‏ سورة النضير

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ قال المفسرون‏:‏ نزلت هذه السورة في بني النضير وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فَقَبِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وظهر على المشركين قالت بنو النضير‏:‏ والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما غزا أحدًا وهُزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشًا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاقَ بين الأستار والكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة - ذكرناه في سورة آل عمران‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في مُنْصَرَفِه من بئر معونة، فهمُّوا بطرح حجر عليه من فوق الحصن فعصمه الله وأخبره بذلك - ذكرناه في سورة المائدة‏.‏

فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا‏:‏ يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية‏؟‏ قال‏:‏ نعم قالوا‏:‏ ذرنا نبكي شجونًا ثم ائتَمِر أمرك فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخرجوا من المدينة فقالوا‏:‏ الموت أقرب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال ودس المنافقون - عبد الله بن أبي وأصحَابُه - إليهم‏:‏ أن لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم‏.‏ فدرِّبوا على الأزقة وحصِّنوها ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه‏:‏ أن اخرْج في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان بيننا وبينك فيستمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرًا من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض‏:‏ كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله‏؟‏ فأرسلوا إليه‏:‏ كيف نفهم ونحن ستون رجلا‏؟‏ اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك، فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلَّت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، ولنبي الله صلى الله عليه وسلم ما بقي‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ أعطي كل ثلاثة نفر بعيرًا وسقاة ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ يعني بني النضير ‏{‏مِنْ دِيَارِهِمْ‏}‏ التي كانت بيثرب، قال ابن إسحاق‏:‏ كان إجلاء بني النضير بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان‏.‏ ‏{‏لأوَّلِ الْحَشْرِ‏}‏ قال الزهري‏:‏ كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخرجوا قالوا إلى أين قال‏:‏ إلى أرض المحشر، ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏"‏لأول الحشر‏"‏ لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

قال مرة الهمداني‏:‏ كان أول الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من الشام في أيام عمر‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان هذا أول الحشر، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا‏.‏

‏{‏مَا ظَنَنْتُمْ‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏أَنْ يَخْرُجُوا‏}‏ المدينة لعزتهم ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة‏.‏ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله ‏{‏فَأَتَاهُمُ اللَّهُ‏}‏ أي أمر الله وعذابه ‏{‏مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا‏}‏ أنه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ‏{‏وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ‏}‏ بقتل سيدهم كعب بن الأشرف‏.‏ ‏{‏يُخْرِبُونَ‏}‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ بالتشديد والآخرون بالتخفيف ومعناهما واحد ‏{‏بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قال الزهري‏:‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلَّت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون منها ما يستحسنونه فيحملونه على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها قال ابن زيد‏:‏ كانوا يقلعون العُمُد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون حسدًا منهم وبغضًا‏.‏ قال قتادة‏:‏ كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم في أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا‏}‏ فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم ‏{‏يَا أُولِي الأبْصَارِ‏}‏ يا ذوي العقول والبصائر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ‏}‏ الخروج من الوطن ‏{‏لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا‏}‏ بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة ‏{‏وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 5‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ الذي لحقهم ‏{‏بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏

‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ‏}‏ الآية‏.‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا‏:‏ يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح‏!‏ أفمِنَ الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل‏؟‏ فهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض‏؟‏ فوجد المسلمون في أنفسهم ‏[‏من قولهم وخشوا‏]‏ أن يكون ذلك فسادًا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم‏:‏ لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل نغيظهم بقطعها فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ حرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع البُويرة فنزلت ‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ أخبر الله في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه فبإذن الله ‏{‏وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ واختلفوا في ‏"‏اللينة‏"‏ فقال قوم‏:‏ النخل كلها لينة ما خلا العجوة ‏[‏وهو قول عكرمة وقتادة ورواه زاذان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة‏]‏ وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمرة‏:‏ الألوان واحدها لون ولينة‏.‏ وقال الزهري‏:‏ هي ألوان النخل كلها إلا العجوة والبرنية‏.‏

وقال مجاهد وعطية‏:‏ هي النخل كلها من غير استثناء‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهم‏:‏ هي لون من النخل‏.‏ وقال سفيان‏:‏ هي كرام النخل‏.‏

وقال مقاتل هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللَّون وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارج يغيب فيها الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم وكانت النخلة الواحدة منها ثمنها ثمن وصيف وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق ذلك عليهم وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد في الأرض وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل ‏[‏قائما هو لمن غلب عليها‏]‏ فأخبر الله تعالى أن ذلك بإذنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 7‏]‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ أي رده على رسوله‏.‏ يقال‏:‏ أفاء يفيء أي رجع، وأفاء الله ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ أي من يهود بني النضير ‏{‏فَمَا أَوْجَفْتُمْ‏}‏ أوضعتم ‏{‏عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ‏}‏ يقال‏:‏ وجف الفرس والبعير يجف وجيفًا وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير، وأراد بالركاب الإبل التي تحمل القوم‏.‏ وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم، كما فعل بغنائم خيبر، فبين الله تعالى في هذه الآية أنها فيء لم يوجف المسلمون عليها خيلا ولا ركابًا ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة ولم يلقوا حربًا، ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث ابن الصمة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد ابن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني مالك بن أوس بن الحَدَثان النَّضْري، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه إذ جاءه حاجبه يَرْفَا فقال‏:‏ هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون‏؟‏ قال‏:‏ نعم فأدخلهم، فلبث يرفأ قليلا ثم جاء فقال‏:‏ هل لك في عباس وعلي يستأذنان‏؟‏ قال‏:‏ نعم فلما دخلا قال عباس‏:‏ يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا - وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بني النضير - فقال الرهط‏:‏ يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر، قال‏:‏ اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه‏؟‏ قالوا‏:‏ قد قال ذلك، فأقبل عمر على علي وعباس، فقال أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك‏؟‏ قالا نعم قال‏:‏ فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره، فقال‏:‏ ‏"‏وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏قدير‏"‏ وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته، ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر‏:‏ أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فعمل بها بما عمل به فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم حينئذ جميع وأقبل على علي وعباس‏:‏ تذكران أن أبا بكر فعل فيه كما تقولان والله يعلم إنه فيها صادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله، أبا بكر، فقلت‏:‏ أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر والله يعلم إني فيه صادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني كِلاكُما وكلمتكما واحدة، وأمركما جميع فقلت لكما‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا نورث ما تركنا صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت‏:‏ إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبما عملت به فيها منذ وليتها وإلا فلا تكلماني فيها فقلتما‏:‏ ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك‏؟‏ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكما‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏}‏ يعني من أموال كفار أهل القرى، قال ابن عباس‏:‏ هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة ‏{‏فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏ قد ذكرنا في سورة الأنفال حكم الغنيمة وحكم الفيء‏.‏ إن مال الفيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يضعه حيث يشاء وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله‏.‏

واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قوم هو للأئمة بعده‏.‏

وللشافعي فيه قولان‏:‏ أحدهما - هو للمقاتلة، والثاني‏:‏ لمصالح المسلمين، ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح‏.‏

واختلفوا في تخميس مال الفيء‏:‏ فذهب بعضهم إلى أنه يخمَّس، فخمسه لأهل الغنيمة، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد، ولجميع المسلمين فيه حق، قرأ عمر بن الخطاب‏:‏ ‏"‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى‏"‏ حتى بلغ‏:‏ ‏"‏للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم‏.‏ والذين جاءوا من بعدهم‏"‏ ثم قال‏:‏ هذه استوعبت المسلمين عامة، وقال‏:‏ ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم‏.‏

‏{‏كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً‏}‏ قرأ العامة بالياء، ‏"‏دولة‏"‏ نصب أي لكيلا يكون الفيء دولة، وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏"‏تكون‏"‏ بالتاء ‏"‏دولة‏"‏ بالرفع على اسم كان، أي‏:‏ كيلا يكون الأمر إلى دولة، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع وحينئذ لا خبر له‏.‏ ‏"‏والدُّوْلة‏"‏ اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ‏{‏بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ‏}‏ يعني بين الرؤساء والأقوياء، فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا اغتنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم يصطفي منها بعد المرباع ما شاء، فجعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمر به، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ‏}‏ أعطاكم ‏{‏آتَاكُمُ‏}‏ ‏[‏من الفيء والغنيمة‏]‏ ‏{‏فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ‏}‏ الغلول وغيره ‏{‏فَانْتَهُوا‏}‏ وهذا نازل في أموال الفيء، وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، عن محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال‏:‏ لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله‏.‏ فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت‏:‏ إنه قد بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال‏:‏ وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى‏؟‏ فقالت‏:‏ لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول‏:‏ قال‏:‏ لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت‏:‏ ‏"‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏"‏ ‏[‏الحشر - 7‏]‏ قالت‏:‏ بلى قال‏:‏ فإنه قد نهى عنه ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ثم بين من له الحق في الفيء فقال‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا‏}‏ رزقًا ‏{‏مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا‏}‏ أي أخرجوا إلى دار الهجرة طلبًا لرضا الله عز وجل ‏{‏وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ في إيمانهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبًا لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو العباس الطحان، أخبرنا أبو أحمد بن محمد بن قريش بن سليمان، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد بن عبد الله بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ هكذا قال عبد الرحمن وهو عندي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد‏.‏

وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك مقدار خمسمائة سنة‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ‏}‏ الأنصار تبوؤا الدار توطنوا الدار، أي‏:‏ المدينة اتخذوها دار الهجرة والإيمان ‏{‏مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ أي أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين‏.‏

ونظم الآية‏:‏ والذين تبوؤا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم، وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء‏.‏

‏{‏يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً‏}‏ حزازة وغيظًا وحسدًا ‏{‏مِمَّا أُوتُوا‏}‏ أي مما أعطى المهاجرين دونهم من الفيء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط منها الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أي يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ‏{‏وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏ فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم‏:‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن داود عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء‏؟‏ فقلن ما معناه‏:‏ إلا الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضم أو يضيف هذا‏؟‏ فقال رجل من الأنصار‏:‏ أنا يا رسول الله فانطلق به إلى امرأته فقال‏:‏ أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ ما عندنا إلا قوت الصبيان فقال‏:‏ هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك، إذا أرداوا عشاءً، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال‏:‏ قالت الأنصار‏:‏ اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال‏:‏ لا فقالوا‏:‏ تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة، قالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال‏:‏ دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا‏:‏ لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها قال‏:‏ ألا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي‏"‏‏.‏

وروي عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار‏:‏ ‏"‏إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة‏"‏ فقالت الأنصار‏:‏ بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏"‏‏.‏

‏"‏والشح‏"‏ في كلام العرب‏:‏ البخل ومنع الفضل، وفرّق العلماء بين الشح والبخل‏.‏ روي أن رجلا قال لعبد الله بن مسعود‏:‏ إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ أسمع الله يقول‏:‏ ‏"‏ومن يوق نفسه فأولئك هم المفلحون‏"‏ وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال عبد الله‏:‏ ليس ذاك بالشح الذي ذكر الله عز وجل في القرآن، ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا ولكن ذاك البخل، وبئس الشيء البخل‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏"‏الشح‏"‏ هو أخذ الحرام ومنع الزكاة وقيل‏:‏ الشح هو الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم‏.‏

قال ابن زيد‏:‏ من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه، ولم يدعه الشح إلى أن يمنع شيئا من شيء أمره الله به فقد وقاه شح نفسه

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو سعد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نزار، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حزاز القهندري، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق السعدي، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا القعنبي، حدثنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم‏"‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا أبي وشعيب قالا أخبرنا الليث عن يزيد ابن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع هو ابن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 11‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة فقال‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا‏}‏ غشًا وحسدًا وبغضًا، ‏{‏لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ من كان في قلبه غِلّ على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاثة منازل‏:‏ المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر الله، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجًا من أقسام المؤمنين‏.‏

قال ابن أبي ليلى‏:‏ الناس على ثلاثة منازل‏:‏ الفقراء المهاجرين والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد ابن عبد الله بن سليمان حدثنا ابن نمير، حدثنا أبي عن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير

عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها‏"‏‏.‏

وقال مالك بن مغول‏:‏ قال عامر بن شراحيل الشعبي‏:‏ يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة ‏[‏بخصلة‏]‏ سئلت اليهود‏:‏ مَنْ خير أهل ملتكم‏؟‏ فقالت‏:‏ أصحاب موسى عليه السلام‏.‏ وسئلت النصارى‏:‏ من خير أهل ملتكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ حواري عيسى عليه السلام‏.‏ وسئلت الرافضة‏:‏ من شر أهل ملتكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة‏.‏

قال مالك بن أنس‏:‏ من يبغض أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا ‏"‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى‏"‏ حتى أتى على هذه الآية‏:‏ ‏"‏للفقراء المهاجرين‏.‏ ‏.‏ والذين تبوءوا الدار والإيمان‏.‏ ‏.‏ والذين جاءوا من بعدهم‏"‏ إلى قوله‏:‏ رءوف رحيم‏"‏‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا‏}‏ أي أظهروا خلاف ما أضمروا‏:‏ يعني‏:‏ عبدَ الله بن أبيٍّ ابنَ سلولَ وأصحابه ‏{‏يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ اليهود من بني قريظة والنضير، جعل المنافقين إخوانهم في الدين لأنهم كفار مثلهم‏.‏ ‏{‏لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ‏}‏ المدينة ‏{‏لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا‏}‏ يسألنا خذلانكم وخلافكم ‏{‏أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏لَكَاذِبُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 14‏]‏

‏{‏لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏ لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ‏}‏ وكان الأمر كذلك، فإنهم أخرجوا من ديارهم فلم يخرج المنافقون معهم، وقُوتلوا فلم ينصروهم‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ‏}‏ أي لو قدر وجود نصرهم‏.‏ قال الزجَّاج‏:‏ معناه لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين ‏{‏ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ‏}‏ يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم‏.‏ ‏{‏لأنْتُمْ‏}‏ يا معشر المسلمين ‏{‏أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ أي ذلك الخوف منكم ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ عظمة الله‏.‏ ‏{‏لا يُقَاتِلُونَكُمْ‏}‏ يعني اليهود ‏{‏جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ‏}‏ أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران، وهو قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏"‏جدار‏"‏ على الواحد، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏جدر‏"‏ بضم الجيم والدار على الجمع‏.‏ ‏{‏بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ بعضهم فظّ على بعض، وعداوة بعضهم بعضًا شديدة‏.‏ وقيل‏:‏ بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله ‏{‏تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى‏}‏ متفرقة مختلفة، قال قتادة‏:‏ أهل الباطل مختلفة أهواؤهم، مختلفة شهادتهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 16‏]‏

‏{‏كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ يعني مشركي مكة ‏{‏ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ‏}‏ يعني القتل ببدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير، قاله مجاهد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع‏.‏ وقيل‏:‏ مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود جميعا في ‏[‏تخاذلهم‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير وخذلانهم كمثل الشيطان ‏{‏إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ‏}‏ وذلك ما روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ كان راهب في الفترة يقال له ‏"‏برصيصا‏"‏ تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله فيها طرفة عين وإن إبليس أعياه في أمره الحيل، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال‏:‏ ألا أجد أحدًا منكم يكفيني أمر برصيصا‏؟‏ فقال الأبيض - وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند - فقال الأبيض لإبليس‏:‏ أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة‏.‏

فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه، فقال له‏:‏ إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك، فما حاجتك‏؟‏ قال‏:‏ حاجتي أني أحببت أن أكون معك، فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك، ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك، فقال برصيصا‏:‏ إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنًا فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيبًا إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يومًا بعدها، فلما انفتل رآه قائمًا يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال له‏:‏ ما حاجتك‏؟‏ قال‏:‏ حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته، فأقام معه حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يومًا ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يومًا مرة، وربما مدَّ إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض‏.‏

فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا‏:‏ إني منطلق فإن لي صاحبًا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادًا مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده، فلما ودعه قال له الأبيض‏:‏ إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا‏:‏ إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علمه‏.‏ ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال‏:‏ قد والله أهلكت الرجل‏.‏ قال‏:‏ فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونًا أفأعالجه‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فقال لهم‏:‏ إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو فيعافون، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة إخوة وكان أبوهم ملكهم، فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل، فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم في صورة متطبب فقال لهم‏:‏ أتريدون أن أعالجها‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة، قالوا‏:‏ ومن هو‏؟‏ قال برصيصا، قالوا‏:‏ وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنًا من ذلك‏؟‏ قال‏:‏ فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه، فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها، ثم قولوا له هي أمانة عندك، فاحتسب فيها‏.‏

قال‏:‏ فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته، وقالوا‏:‏ هذه أختنا أمانة فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين الجارية وما بها من الحسن والجمال، فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم، ثم أقبل في صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها، وكانت تكشف عن نفسها، فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد فتدرك ما تريد من الأمر، فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان‏:‏ ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب‏؟‏ فإن سألوك فقل‏:‏ ذهب بها شيطانها، فلم أقدر عليه‏.‏ فدخل فقتلها، ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلا فأخذ بطرف إزارها، فبقي طرف خارجًا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم، وكانوا يجيئون في طرف الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فقالوا‏:‏ يا برصيصا ما فعلت أختنا‏؟‏ قال‏:‏ قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدَّقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال‏:‏ ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه ودفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ في نفسه‏:‏ هذا حلم وهو من عمل الشيطان، فإن برصيصا خير من ذلك‏.‏ قال‏:‏ فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث‏.‏ فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قاله الأكبر، فلم يخبر أحدًا، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال أصغرهم لأخويه‏:‏ والله لقد رأيت كذا وكذا، وقال الأوسط‏:‏ وأنا والله قد رأيت مثله وقال الأكبر‏:‏ وأنا رأيت مثله، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا‏:‏ يا برصيصا ما فعلت أختنا‏؟‏ قال‏:‏ أليس قد أعلمتكم بحالها‏؟‏ فكأنكم اتهمتموني‏؟‏ فقالوا‏:‏ والله لا نتهمك، واستحيوا منه فانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال‏:‏ ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب‏.‏ فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم، فمشوا في مواليهم وغلمانهم ومعهم الفئوس والمساحي فهدموا صومعته وأنزلوه، ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه، وذلك أن الشيطان أتاه فقال‏:‏ تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران‏:‏ قتل ومكابرة اعترف‏.‏ فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال‏:‏ يا برصيصا أتعرفني‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك، ويحك ما اتقيت الله في أمانتك‏!‏ خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحييت‏؟‏ فلم يزل يعيِّره، ثم قال في آخر ذلك‏:‏ ألم يكفك ما صنعتَ حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس‏؟‏ فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك، قال‏:‏ فكيف أصنع قال‏:‏ تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم فأخرجك من مكانك‏!‏ قال‏:‏ وما هي قال تسجد لي ‏[‏قال‏:‏ ما أستطيع‏.‏ قال‏:‏ افعلُ‏]‏ فسجد له فقال‏:‏ يا برصيصا هذا الذي كنت أردت منك، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، إني برئ منك ‏"‏إني أخاف الله رب العالمين‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يقول الله تعالى ‏{‏فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا‏}‏ يعني الشيطان وذلك الإنسان ‏{‏أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير عن المدينة فدسَّ المنافقون إليهم، وقالوا‏:‏ لا تجيبوا محمدًا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم، فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين، حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين، فخذلوهم وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله، فكان عاقبة الفريقين النار‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ فكان الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتَّقِيَّة والكتمان، وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار، ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله مما رموه به انبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس، وكانت قصة جريج على ما‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني زهير بن حرب، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا جرير بن حازم، حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة‏:‏ عيسى بن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدًا فاتخذ صومعته فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت‏:‏ يا جريج، فقال‏:‏ يا رب أمي وصلاتي‏؟‏ فأقبل على صلاته، فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت‏:‏ يا جريج، فقال‏:‏ أيْ رب أمي وصلاتي‏؟‏ فأقبل على صلاته فقالت‏:‏ اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات‏.‏

فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت‏:‏ إن شئتم لأفتننَّه لكم قال‏:‏ فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت‏:‏ هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه من صومعته وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال‏:‏ ما شأنكم‏؟‏ قالوا‏:‏ زنيت بهذه البغية فولدت منك، فقال‏:‏ أين الصبي‏؟‏ فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي وطعن في بطنه وقال‏:‏ يا غلام من أبوك‏؟‏ قال‏:‏ فلان الراعي، قال‏:‏ فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب، قال‏:‏ لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا‏.‏ وبينا صبي يرضع من أمه، فمرَّ رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه‏:‏ اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل عليه ونظر إليه، فقال‏:‏ اللهم لا تجعلني مثله‏.‏ ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع‏.‏ قال‏:‏ فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها‏.‏

قال‏:‏ ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون‏:‏ زنيتِ وسرقتِ، وهي تقول‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه‏:‏ اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال‏:‏ اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث، فقالت‏:‏ مرّ رجل حسن الهيئة فقلتُ‏:‏ اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ‏:‏ اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت، فقلتُ‏:‏ اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلتَ‏:‏ اللهم اجعلني مثلها، قال‏:‏ إن ذاك الرجل كان جبارًا فقلت اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها‏:‏ زنيتِ، ولم تزنِ، وسرقتِ، ولم تسرقْ، فقلت‏:‏ اللهم اجعلني مثلها‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ‏}‏ يعني ليوم القيامة، أي‏:‏ لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه، عملا صالحًا ينجيه أم سيئًا يوبقه‏؟‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ‏}‏ تركوا أمر الله ‏{‏فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏أي حظوظ أنفسهم‏]‏ حتى لم يقدموا لها خيرا ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏

‏{‏لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 23‏]‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ قيل‏:‏ لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع وتشقق وتصدع من خشية الله مع صلابته ورزانته حذرًا من أن لا يؤدي حق الله عز وجل في تعظيم القرآن، والكافر يعرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها يصفه بقساوة القلب ‏{‏وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏‏"‏الغيب‏"‏‏:‏ ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموهُ والشهادة ما شاهدوه وما علموه ‏{‏هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ‏}‏ الطاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به ‏{‏السَّلامُ‏}‏ الذي سلم من النقائص ‏{‏الْمُؤْمِنُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه، هو من الأمان الذي هو ضد التخويف كما قال‏:‏ ‏"‏وآمنهم من خوف‏"‏ ‏[‏قريش - 4‏]‏ وقيل‏:‏ معناه المصدق لرسله بإظهار المعجزات، والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب، وللكافرين بما أوعدهم من العقاب‏.‏

‏{‏الْمُهَيْمِنُ‏}‏ الشهيد على عباده بأعمالهم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل‏.‏ يقال‏:‏ هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيبًا على الشيء وقيل‏:‏ هو في الأصل مؤيمن قلبت الهمزة هاء، كقولهم‏:‏ أرقت وهرقت ومعناه المؤمن‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الأمين‏.‏ وقال الخليل‏:‏ هو الرقيب الحافظ‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المصدق‏.‏ وقال سعيد بن المسيب والضحاك‏:‏ القاضي‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ هو اسم من أسماء الله تعالى في الكتب والله أعلم بتأويله‏.‏

‏{‏الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏الجبار‏"‏ هو العظيم، وجبروت الله عظمته، وهو على هذا القول صفة ذات الله، وقيل‏:‏ هو من الجبر وهو الإصلاح يقال‏:‏ جبرت الأمر، وجبرت العظم إذا أصلحته بعد الكسر، فهو يغني الفقير ويُصلح الكسير‏.‏ وقال السدي ومقاتل‏:‏ هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد‏.‏ وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال‏:‏ هو القهار الذي إذا أراد أمرًا فعله لا يحجزه عنه حاجز‏.‏

‏{‏الْمُتَكَبِّرُ‏}‏ الذي تكبر عن كل سوء‏.‏ وقيل‏:‏ المتعظم عما لا يليق به‏.‏ وأصل الكبر، والكبرياء‏:‏ الامتناع‏.‏ وقيل‏:‏ ذو الكبرياء، وهو الملك ‏{‏سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ‏}‏ المقَدِّر والمقلب للشيء بالتدبير إلى غيره، كما قال‏:‏ ‏"‏يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق‏"‏ ‏[‏الزمر - 6‏]‏ ‏{‏الْبَارِئُ‏}‏ المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود ‏{‏الْمُصَوِّرُ‏}‏ الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض‏.‏ يقال‏:‏ هذه صورة الأمر أي مثاله، فأولا يكون خلقًا ثم بَرْءًا ثم تصويرًا‏.‏ ‏{‏لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا ابن وهب، حدثنا أحمد بن أبي شريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا أخبرنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد بن طهمان، حدثني نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من قال حين يصبح - ثلاث مرات - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكَّلَ الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة‏"‏‏.‏

ورواه أبو عيسى عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري بهذا الإسناد، وقال‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏